إصدار وتداول العملات الرقمية بين التحذير والتجريم في النظامين القانونيين المصري والسعودي

بدأت العملات الرقمية تأخذ مكانتها كواحدة من أهم المستجدات الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين؛ ولم تقتصر آثارها على الجانب المالي فحسب، بل امتدت لتشمل الجوانب القانونية، والاجتماعية، والتكنولوجية.

وعلى الرغم من الفرص الاستثمارية الواعدة التي توفرها هذه العملات، إلا أنَّ هناك جدلًا قانونيًا واسع النطاق حول مدى مشروعيتها، ومدى تأثيرها على حركة التجارة الدولية؛ هذا الجدل يتراوح بين الدعم الكامل لهذه العملات في بعض الدول، مثل الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا، وبين الحظر أو التحفظ الشديدين، كما هو الحال في دول مثل مصر والمملكة العربية السعودية. لذا، يُعدُّ موضوع “مدى مشروعية تعدين وتداول العملات الرقمية في النظام القانوني بمصر والمملكة العربية السعودية كدراسة مقارنة من الموضوعات التي تكتسب أهمية خاصة، نظرًا لتباين موقفي الدولتين من حيث وجود وعدم وجود تشريع يبين مدى المشروعية، ووقوع مسألة المشروعية بين النظام القانوني هنا وهناك بين الحظر والإباحة الحذرة.

ولقد بات معلومًا أن الأنظمة القانونية -وبطبيعة الحال- تنظر إلى العملات الرقمية من زوايا مختلفة، حيث يتوقف تنظيمها على عدة عوامل، منها الأطر القانونية القائمة، والسياسات الاقتصادية، والضوابط الشرعية.

وفي حين تسعى بعض الدول إلى تنظيم تداول وتعدين هذه العملات بشكل يسمح بالاستفادة من تكنولوجيا (بلوك تشين) وتقليل المخاطر المرتبطة بها، تذهب دول أخرى إلى تجريمها تمامًا خوفًا من المخاطر المرتبطة بجرائم غسل الأموال، وتمويل الإرهاب، وعدم الاستقرار المالي.

ففي مصر، اتخذ المشرع موقفًا حازمًا بشأن العملات الرقمية، حيث أصدر قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي رقم 194 لسنة 2020، الذي ينص صراحةً على تجريم استخدام العملات الرقمية كوسيلة للدفع؛ ولم يتعرض القانون لامتلاك العملات الرقمية المشفرة كأصل له قيمة، وانحصر التجريم على التداول والإصدار، بما يعني أن المشرع المصري لا ينظر للعملات الرقمية المشفرة باعتبارها نقودًا، ولكن ضمنيًا قد يعامل المشرع المصري العملات الرقمية المشفرة كأصل معنوي إلكتروني له قيمة، فلم يتعرض لتجريم حيازته، ولكن انحصر التجريم في إطار استخدام العملات الرقمية المشفرة كوسيلة للدفع، بما يشير إلى عدم مشروعية الثمن في العقود التي تقدر ثمن المبيع أو الخدمة المقدمة مقابل عملة من العملات الرقمية المشفرة.

وجديرٌ بالذكر أن توجه الدولة هو الحفاظ على (النظام المالي التقليدي) وتفادي المخاطر الاقتصادية والأمنية المحتملة؛ حيث تعتبر السلطات المصرية أن العملات الرقمية، بما في ذلك البيتكوين، تمثلُ تهديدًا للنظام المالي الراسخ، كما قد تكون وسيلة لتجاوز القيود المفروضة على الأنشطة غير القانونية، بما في ذلك غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

فمن هنا، جاء التجريم الكامل لتداول وتعدين العملات الرقمية بهدف حماية الاقتصاد القومي وحماية المواطنين من الوقوع في فخ الجرائم المالية، ولكن لم يغلق المشرع الباب تمامًا، وإنما ترك باب التنظيم القانوني مواربًا في مواد تجريم إنشاء وتداول العملات الرقمية، على نحو ما سيرد بالبحث.

وعلى النقيض النسبي من ذلك، اعتمدت المملكة العربية السعودية نهجًا متحفظًا، ولكنه أقل حزمًا، حيث لم تصدر المملكة حتى الآن أي أنظمة (قوانين) صريحة تجرم تعدين وتداول العملات الرقمية، ولكنها اكتفت بإصدار تحذيرات رسمية عبر مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) وهيئة السوق المالية، حيث تؤكد على المخاطر المرتبطة بالعملات الرقمية، بما في ذلك التقلبات الحادة في قيمتها وعدم وجود ضمانات قانونية تحمي المستثمرين.

ومع ذلك، لم تفرض أيُّ عقوبات جنائية صريحة على الأفراد، أو المؤسسات التي تتعامل بالعملات الرقمية، مما يضع السعودية في موقع وسط بين التنظيم المبيح والتجريم الصريح.

ويجب عند دراسة مدى مشروعية تعدين وتداول العملات الرقمية، الانتباه إلى التأثيرات الاقتصادية لهذه الأنشطة؛ ففي مصر، يعتبر المشرع أن استخدام العملات الرقمية يمكن أن يؤثر سلبًا على الاستقرار المالي للبلاد، حيث إن تعدين العملات الرقمية يستهلك كميات هائلة من الكهرباء، ويتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية الخاصة بتكنولوجيا الاتصالات، مما يؤدي إلى استنزاف موارد البلاد دون تحقيق عائد ملموس.

كما أن المشرع في نهج فلسفته التشريعية يعتبر أن تداول العملات الرقمية تهديدًا للسيطرة الحكومية على النظام المالي، إذ إن تداول العملات الرقمية يسمح بإجراء التحويلات المالية الدولية بسهولة دون المرور عبر البنوك التقليدية، مما يقلل من قدرة الحكومة على مراقبة التدفقات المالية ومنع الأنشطة غير المشروعة.

وفي المملكة العربية السعودية، تعتبر الحكومة أن العملات الرقمية تشكل خطرًا محتملاً على الاستقرار المالي والأمني، ولكنها لم تصل إلى حد تجريمها بشكل صريح.

فالتحذيرات الصادرة من الجهات الرسمية تعكس القلق بشأن المخاطر الاقتصادية المرتبطة بالتقلبات الكبيرة في أسعار العملات الرقمية، كما أنها تركز -أيضًا- على احتمال استخدام العملات الرقمية في أنشطة غير قانونية، مثل غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

وعلى الرغم من ذلك، تبقى المملكة أكثر انفتاحًا نحو الاستفادة من التكنولوجيا المرتبطة بالعملات الرقمية، مثل تكنولوجيا البلوكتشين، التي تعد بتقديم تحسينات كبيرة في مجالات مثل الشفافية والكفاءة.

في ظل هذا الجدل القانوني، يبرز دورُ الفقه الإسلامي في تحديد مشروعية العملات الرقمية في مصر والسعودية. ففي مصر، أصدرت دار الإفتاء المصرية فتاوى تحرم التعامل بالعملات الرقمية، مستندةً إلى عدة أسباب شرعية، من بينها أن العملات الرقمية تشتهر بالتقلبات الكبيرة، التي تجعلها وسيلة للمضاربة، وهو ما يتعارض مع مبادئ الشريعة التي تحرم الغرر (المخاطرة غير المحسوبة) والربا؛ فضلًا عن كونها قد تُستخدم في تمويل الأنشطة غير المشروعة، مما يزيد من خطورة استخدامها.

أمَّا في المملكة العربية السعودية، فقد صدرت فتاوى تحذر من التعامل بالعملات الرقمية دون أن تحرمها بشكل صريح؛ إذ يرى العديد من العلماء في المملكة السعودية أن العملات الرقمية تحمل بعض المخاطر، التي تجعل من الصعب التعامل معها وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية؛ وهذه التحذيرات تعتمدُ على مخاوف مشابهة لتلك الموجودة في مصر، مثل عدم الاستقرار الاقتصادي، التقلبات الحادة في القيمة، واحتمال استخدامها في أنشطة غير مشروعة؛ ومع ذلك، تبقى الفتاوى السعودية أقل حزمًا من نظيرتها المصرية.

وجديرٌ بالذكر أنه لا يمكن مناقشة مشروعية العملات الرقمية دون التطرق إلى البعد الدولي لهذه الظاهرة؛ إذ إنَّ الدول التي تبنت العملات الرقمية تسعى إلى تعزيز الشفافية والكفاءة في المعاملات المالية، فنجد أنه -على سبيل المثال- تسمح بعض الدول الأوروبية بتداول العملات الرقمية تحت رقابة صارمة من الجهات التنظيمية، حيث تُرَاقَبُ العملياتُ والتحققُ من هوية المتعاملين، لضمان الامتثال للقوانين المحلية والدولية.

وهذه الدول ترى في العملات الرقمية فرصة لتعزيز الابتكار التكنولوجي في القطاع المالي، وجذب الاستثمارات الأجنبية. وعلى الجانب الآخر؛ يَعْتَبِرُ المشرع في مصر والسعودية أن التعامل بالعملات الرقمية يمثل تهديدًا للاستقرار المالي والاجتماعي، مما يبرر الحذر أو التجريم الكامل لهذه الأنشطة.

وفي النهاية، يظل السؤال حول مدى مشروعية تعدين وتداول العملات الرقمية في مصر والسعودية محل جدل قانوني وفقهي؛ حيث إن المقارنة تعكس الفروق بين النظامين القانونيين والاقتصاديين في البلدين، كما يعكس التحديات التي تواجه الدول العربية في مواكبة التطورات التكنولوجية العالمية دون الإخلال بالاستقرار المالي والاجتماعي.

وفي الختام؛ فإنه لا مناص من القول بأن العملات الرقمية الموجودة حاليًا ليست على سبيل الحصر، إما تقبل بها الدول أو لا تقبل بها، ولكن للدول الحق في إصدار عملاتها الرقمية المشفرة، والتي تخضع لأجهزتها المركزية، فتكون بذلك خاضعة للرقابة، بما يجعلها تسيطر على استخدام العملات الرقمية في الجرائم المنظمة، كغسل الأموال وتمويل الإرهاب، ويشير ذلك إلى حق الدول في تجريم التداول بهذه العملات أو حظرها أو التحذير من مخاطرها. وبناء على ذلك فإنه من الضروري أن تنظر الدول للعملات الرقمية كعملاتٍ قابلة للتداول نظرةً مختلفةً، فتضع الأنظمة القانونية التي تمكنها من الدخول إلى هذا السوق عالي الاستثمارات، بقواعد مرنة ضابطة تمكنها من عدم تفويت فرصها الاستثمارية لتواكب التطور الذي تستلزمه التجارة الدولية والتي تتطلب السرعة والمصداقية والشفافية وإعلاء مصالح المجتمع الدولي، وفقَ ما تأسست عليه المعاهدات الخاصة بالتجارة الدولية.